رفح- اكتظاظ سكاني تحت القصف وخطة إسرائيلية لنشر الفوضى

المؤلف: محمُود الرنتيسي11.10.2025
رفح- اكتظاظ سكاني تحت القصف وخطة إسرائيلية لنشر الفوضى

لم يكن بوسع أحد أن يتصور، بأي شكل من الأشكال، أن مدينة رفح ستستقبل في نهاية عام 2023 ما يربو على مليون ونصف المليون نازح من مختلف مدن قطاع غزة، وذلك جراء القصف الوحشي الذي شنّه جيش الاحتلال الإسرائيلي على المنازل والمستشفيات والبنى التحتية في شتى أنحاء القطاع.

في عام 2003، حضرتُ محاضرة قيّمة في كلية الهندسة بالجامعة الإسلامية بغزة، تناولت هندسة شبكات المياه في قطاع غزة. تمحورت المهمة حول تحديد عدد السكان المستقبلي لمدينة رفح بعد عشرين عامًا، والذي سيُستند إليه في تصميم شبكة المياه الافتراضية. آنذاك، كان تعداد سكان رفح يقارب 150 ألف نسمة. وعلى الرغم من اختلاف تقديرات الطلاب حول عدد السكان المستقبلي، نظرًا لتعدد الطرق والأساليب، فقد تراوحت التقديرات بين 200 ألف و300 ألف نسمة. ومع أن هذه الحسابات تضع في الحسبان بعض الهوامش لأرقام الهجرة والنزوح، بجانب معدلات الزيادة الطبيعية للسكان، إلا أن سيناريو وجود مليون ونصف المليون فلسطيني في رفح لم يكن ليخطر ببال أحد قط.

في مستهل العدوان، سعى الاحتلال، من خلال ارتكاب المجازر المروعة ضد المدنيين والسماح بدخول كميات ضئيلة من المساعدات إلى جنوب القطاع، مع وعودات كاذبة بتوفير أماكن آمنة، إلى دفع السكان قسرًا نحو رفح، ومن ثم تنفيذ مخطط التهجير القسري الذي باء بالفشل لأسباب جمة، أهمها إصرار الشعب الفلسطيني على التشبث بأرضه ورفض النزوح، رغم كل أشكال الموت والتجويع. ونتيجة لذلك، لجأ الاحتلال، الذي بدا في حالة تخبط وارتباك بشأن مستقبل غزة بعد العدوان، إلى استهداف ممنهج لكل مظاهر السيادة، ومقومات وجود إدارة محلية فاعلة في قطاع غزة، ولا سيما في محافظة رفح، التي تحتضن العدد الأكبر من السكان.

الضغط الديمغرافي

تقع مدينة رفح في أقصى جنوب القطاع، على الحدود مع مصر، وتبعد عن مدينة غزة حوالي 35 كيلومترًا. تبلغ مساحة مدينة رفح حوالي 63 كيلومترًا مربعًا، وهو ما يشكل 20% من مساحة القطاع. قبل العدوان الإسرائيلي الأخير، كانت الكثافة السكانية في رفح تُعد من بين الأعلى في العالم، حيث كانت تقارب 5000 نسمة لكل كيلومتر مربع. أما الآن، وبعد أن وصل عدد الفلسطينيين المتواجدين فيها إلى مليون ونصف المليون، فقد ارتفعت الكثافة السكانية بشكل هائل لتصل إلى 27 ألف نسمة لكل كيلومتر مربع.

وبالنظر إلى أن هناك العديد من المناطق القريبة من الحدود الشرقية لرفح تخضع لسيطرة الاحتلال، ووجود مناطق أخرى لا يستطيع النازحون التواجد فيها، فإن السكان يتركزون في حوالي 30 كيلومترًا مربعًا فقط من رفح. ونتيجة لذلك، ارتفعت الكثافة السكانية إلى ما يزيد عن 50 ألف نسمة لكل كيلومتر مربع، وهي نسبة تُعد الأعلى في العالم. وحتى النسب القريبة منها، مثل نسبة النازحين من الروهينغا في مخيمات اللجوء في بنغلاديش عام 2017، والتي وصلت إلى 40 ألف نسمة لكل كيلومتر مربع، لم تكن ترزح تحت وطأة الحرب والحصار، كما هو الحال في رفح حاليًا.

لقد كان قطاع غزة يُعتبر من المناطق الجغرافية ذات الكثافة السكانية العالية في العالم حتى قبل العدوان. ولكن حاليًا، وبعد أن تضاعفت هذه الكثافة إلى عشرة أضعاف، فإننا نتحدث عن وضع غير مسبوق على الإطلاق، من شأنه أن يشلّ عمل أي جهاز إداري أو حكومي، حتى في غياب القصف والحالة الأمنية الخطيرة، وذلك جراء العدوان والحصار والتجويع الممنهج.

لقد شهدت مدن عديدة حول العالم تفشي الفوضى وانعدام الأمن وانتشار العنف، مثل كينشاسا وريودي جانيرو، وفشلت البلديات في تقديم الخدمات الأساسية بسبب الزيادة السكانية الهائلة، وذلك دون وجود حرب إبادة أو حصار مطبق. فكيف إذا أضيفت هذه العوامل المدمرة؟ ويكفي أن نشير هنا إلى أن عدد العاملين في بلدية رفح لا يتجاوز 200 شخص، وهم مكلفون بتقديم الخدمات الضرورية لمليون ونصف المليون نازح.

وعلى الرغم من هذه الظروف القاسية، فقد أبدت الجبهة الداخلية في رفح صمودًا قلّ نظيره، وتحملًا وصبرًا شديدين، رغم الضغط الديمغرافي الهائل. وقد تم ابتكار العديد من الآليات والحلول العملية لضبط الحالة الأمنية والصحية والاقتصادية، وضمان التوزيع العادل للمساعدات الإنسانية، وإدارة مراكز الإيواء وفرق الطوارئ والنظافة.

ومنذ بداية العدوان، نفّذت بلدية رفح آلاف المهام لإنقاذ وإجلاء الجرحى، ودفن الشهداء وإعادة فتح الطرق وإزالة الأنقاض وتنظيم مراكز اللجوء. كما عملت المؤسسة الأمنية والاقتصادية جاهدة لتنظيم الأوضاع، وقامت الشرطة بتأمين شاحنات المساعدات والتصدي للفوضى والجريمة.

يُعد استهداف فائق المبحوح، المدير في الشرطة في غزة والمسؤول عن التنسيق مع العشائر والأونروا لتأمين المساعدات في غزة، امتدادًا لسلسلة الخطوات الإسرائيلية الرامية إلى استهداف مقومات السيادة التابعة لحركة حماس في قطاع غزة.

الفوضى الموازية للتهديد

بات من المعلوم أن حكومة الاحتلال تستخدم التهديد باجتياح رفح بريًا كورقة ضغط في عملية التفاوض بشأن صفقة شاملة لوقف إطلاق النار، على الأقل في الوقت الراهن. وحتى مع وضع سيناريو العملية البرية في الحسبان، فإن هناك مسارًا موازيًا بالغ الخطورة يسلكه الاحتلال الإسرائيلي، يعتمد على إحداث حالة من الفوضى العارمة في رفح، وذلك عبر استهداف كل مقومات الاستقرار والنظام ومظاهر السيادة.

في البداية، لم تسمح حكومة الاحتلال إلا بدخول عدد محدود للغاية من شاحنات الغذاء والمواد الإغاثية عبر معبر رفح، ولم تف هذه الشاحنات حتى بالحد الأدنى من احتياجات هذا العدد الهائل من البشر الذين اكتظت بهم مدينة رفح. ووفقًا لرئيس بلدية رفح، فإن كمية المساعدات التي دخلت لا تكفي سوى لحوالي 10% فقط من السكان.

وبالتالي، سعت حكومة الاحتلال، من خلال هذا الكم الشحيح والمحسوب من المساعدات، إلى إحداث شرخ عميق بين المجتمع والمقاومة، من خلال الضغط على الحاضنة الشعبية فيما يتعلق بالاحتياجات الأساسية والضرورية.

كما أن توزيع هذه المساعدات المحدودة لن يصل إلى جميع السكان، ويعوّل الاحتلال على أن يثير ذلك الاستياء والسخط، ويمهد الطريق لحالة من الفوضى والسيطرة على المساعدات بالقوة. وهذا ما حدث بالفعل في حالات محدودة، تعاملت معها الشرطة في رفح، التي واصلت عملها الدؤوب رغم الخطر الجسيم الذي يتهددها. فقد عملت الشرطة على حماية ظهر المقاومة، وحفظت الجبهة الداخلية، وتصدت للمخالفات الأمنية والاقتصادية، وكافحت الجريمة، ولاحقت المشبوهين، وقامت بتأمين شاحنات المساعدات وراقبت عملية التوزيع بالطرق السليمة، والبيع بالأسعار المحددة.

استهداف الشرطة ولجان الإغاثة

من أجل إنجاح سيناريو الفوضى والفلتان الأمني وتقويض الأمن الداخلي، عمد الاحتلال الإسرائيلي إلى استهداف قوى الشرطة المدنية في مدينة رفح. وقد استشهد العشرات من قادة وعناصر الشرطة التابعين للحكومة في غزة، في مدينة رفح، من خلال استهداف السيارات الشخصية أو سيارات الشرطة المعروفة، أثناء قيامهم بتأمين المساعدات الإنسانية.

إن الوجود الشرطي في رفح يمثل نوعًا من السيطرة الإدارية للحكومة في غزة، وهو الأمر الذي يزعج حكومة الاحتلال الإسرائيلي بشدة، ويكشف عن فشل مخططاتها المتعلقة بأهداف الحرب، أو ما يسمى بـ "اليوم التالي".

وبالنظر إلى أهمية الحفاظ على الحالة الأمنية، ظهرت مبادرات جديدة داعمة في ظلّ الاستهداف الممنهج للشرطة، تجسدت في لجان الحماية الشعبية. هذه اللجان المنظمة تتواجد في الأسواق وتنظم الطوابير الطويلة أمام المخابز والمتاجر والبنوك، وتمنع التجار من استغلال الأوضاع ورفع الأسعار بشكل غير مبرر. ولعلّ الهدف الأهم والأشمل هو منع تحقق هدف الاحتلال الرامي إلى نشر الفوضى بين هذا الكم الهائل من السكان.

من المرجح أن مخططات الاحتلال لضرب الحالة الأمنية والسيادية في غزة ستؤول إلى الفشل الذريع، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أنه بعد كل الدمار الذي لحق بمناطق شمال القطاع، عادت الحالة الأمنية والشرطية لضبط الأوضاع بعد انسحاب قوات الاحتلال، وقد حققت نجاحًا واضحًا في تأمين المساعدات في شمال قطاع غزة قبل عدة أيام. ولهذا، عاد الاحتلال لاستهداف عدد من كوادرها، في إصرار جلي على السياسة التي يتبعها.

يُعد استهداف فائق المبحوح، المدير في الشرطة في غزة والمسؤول عن التنسيق مع العشائر والأونروا لتأمين المساعدات في غزة، امتدادًا لسلسلة الخطوات الإسرائيلية الرامية إلى استهداف مقومات السيادة التابعة لحركة حماس في قطاع غزة.

وفي بُعد آخر يخدم هدف الاحتلال بتدمير أي مظهر من مظاهر السيطرة الحكومية والإدارية، وإلى جانب الشرطة المسؤولة عن الأمن، استمر الاحتلال في استهداف الأفراد والمؤسسات المحلية المسؤولة عن ترتيب أوضاع المساعدات الإنسانية والشؤون الإغاثية. ولم تسلم حتى المؤسسات التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الأونروا، بل كانت في صميم الاستهداف، لأن الاحتلال يهدف من وراء ذلك إلى القضاء التام على أي بنية إدارية منظمة يمكن أن تدير الأوضاع فلسطينيًا، بما لا يخدم أجندته ومصالحه. وقد أقدم الاحتلال على قتل أكثر من 130 شخصًا من العاملين في المجال الإغاثي والإنساني.

وفي هذا السياق، قامت قوات الاحتلال يوم 13 مارس/آذار 2024 باستهداف مركز لتوزيع الأغذية تابع للأمم المتحدة في مدينة رفح، وقتلت فيه 4 أشخاص، من بينهم موظفان بالأونروا ومسؤولان عن لجان الطوارئ، المكلفون بخدمة الناس في مدينة رفح.

الجبهة الداخلية

تدرك دولة الاحتلال تمام الإدراك صعوبة القضاء على الجهاز العسكري لحركة حماس، ولهذا عمدت إلى الانتقام الشديد من الحاضنة الشعبية المؤيدة للمقاومة. ولم تكتفِ بقتل ما يزيد على 31 ألف فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال، بل لا تزال تعمل جاهدة على تفتيت كل صور السيادة والحكم والاستقرار، وأي هياكل إدارية تسعى لحفظ الأمن وإدارة الحالة الإغاثية، ظنًا منها أن هذا الإجراء سينجح في التمهيد لتصوراتها المستقبلية لقطاع غزة. ولهذا، ستبقى معنية بنشر الفوضى والاضطرابات في رفح، الأمر الذي يستوجب الحذر واليقظة من كل المخططات والدسائس، والمرونة في استحداث أدوات المواجهة المناسبة.

إن هذا السلوك الذي يسعى إلى تدمير كل مقومات الحكم والإدارة في غزة، يندرج دائمًا في إطار إستراتيجية إسرائيلية راسخة، تقوم على عدم الاعتراف بوجود الإنسان الفلسطيني، وعدم الاعتراف بأحقيته في الكيانية والوجود. ولذلك، لا يُرجح أن تتراجع دولة الاحتلال عن سياسة تدمير مقومات الكيانية الفلسطينية، على الرغم من عدم تحقيقها أي نتائج إيجابية حتى الآن. ولكن في المقابل، سيتمكن الفلسطينيون دائمًا من تطوير أساليب جديدة تراعي الأولويات الوطنية العليا، وتحافظ على قدر من الإدارة الوطنية، على الرغم من مواجهتهم أشرس أنواع الإبادة في هذا العصر الحديث.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة